فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ حفص: {والنجوم مسخرات} على الابتداء والخبر فيكون تعميمًا للحكم بعد تخصيصه ورفع ابن عامر: {الشمس والقمر} أيضًا. {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} جمع الآية، وذكر العقل لأنها تدل أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات.
{وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الأرض} عطف على {اليل}، أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أصنافه فإنها تتخالف باللون غالبًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} إن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم.
{وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر} جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص. {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} هو السمك، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله، ولإِظهار قدرته في خلقه عذبًا طريًا في ماء زعاق، وتمسك به مالك والثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب عنه بأن مبنى الإِيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإِطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه. {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم. {وَتَرَى الفلك} السفن. {مَوَاخِرَ فِيهِ} جواري فيه تشقه بحيزومها، من المخر وهو شق الماء، وقيل صوت جري الفلك. {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من سعة رزقه بركوبها للتجارة. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سببًا للانتفاع وتحصيل المعاش.
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ} جبالًا رواسي. {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهة أن تميل بكم وتضطرب، وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك، أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة، وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال. {وأنهارا} وجعل فيها أنهارًا لأن ألقى فيه معناه. {وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لمقاصدكم، أو إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.
{وعلامات} معالم يستدل بها السابلة من جبل وسهل وريح ونحو ذلك. {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البراري والبحار، والمراد بالنجم الجنس ويدل عليه قراءة: {وبالنجم} بضمتين وضمة وسكون على الجمع، وقيل الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي، ولعل الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هؤلاء خصوصًا يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم.
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} إنكار بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد بخلق ما عدد من مبدعاته لأن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك بل على إيجاد شيء ما، وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس تنبيهًا على أنهم بالإشراك بالله سبحانه وتعالى جعلوه من جنس المخلوقات العجزة شبيهًا بها، والمراد بمن لا يخلق كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى مغلبًا فيه أولو العلم منهم أو الأصنام، وأجروها مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة ومن حق الإِله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق أو للمبالغة وكأنه قيل: إن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده، {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فتعرفوا فساد ذلك فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} لا تضبطوا عددها فضلًا أن يطيقوا القيام بشكرها، أتبع ذلك تعداد النعم وإلزام الحجة على تفرده باستحقاق العبادة تنبيهًا على أن وراء ما عَدَّدَ نعمًا لا تنحصر، وأن حق عبادته تعالى غير مقدور. {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها. {رَّحِيمٌ} لا يقطعها لتفريطكم فيه ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
{والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم بعد تزييفه باعتبار القدرة.
{والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي والآلهة الذين تعبدونهم من دونه، وقرأ أبو بكر: {يدعون} بالياء، وقرأ حفص ثلاثتها بالياء. {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} لما نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق بين أنهم لا يخلقون شيئًا لينتج أنهم لا يشاركونه، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهية فقال: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأنهم ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق، والإِله ينبغي أن يكون واجب الوجود.
{أَمْوَاتٌ} هم أموات لا تعتريهم الحياة، أو أموات حالًا أو مآلًا. {غَيْرُ أَحْيَاء} بالذات ليتناول كل معبود، والإِله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ولا يعلمون وقت بعثهم، أو بعث عبدتهم فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم، والإِله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب مقدرًا للثواب والعقاب، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
{إلهكم إله واحد} تكرير للمدعى بعد إقامة الحجج. {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}. بيان لما اقتضى إصرارهم بعد وضوح الحق وذلك عدم إيمانهم بالآخرة، فإن المؤمن بها يكون طالبًا للدلائل متأملًا فيما يسمع فينتفع به، والكافر بها يكون حاله بالعكس وإنكار قلوبهم ما لا يعرف إلا بالبرهان إتباعًا للأسلاف وركونًا إلى المألوف، فإنه ينافي النظر والاستكبار عن اتباع الرسول وتصديقه والالتفات إلى قوله، والأول هو العمدة في الباب ولذلك رتب عليه ثبوت الآخرين.
{لاَ جَرَمَ} حقًا. {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيجازيهم، وهو في موضع الرفع ب {جَرَمَ} لأنه مصدر أو فعل. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} فضلًا عن الذين استكبروا عن توحيده أو اتباع الرسول.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} القائل بعضهم على التهكم أو الوافدون عليهم أو المسلمون. {قَالُواْ أساطير الأولين} أي ما تدعون نزوله، أو المنزل أساطير الأولين، وإنما سموه منزلًا على التهكم أو على الفرض أي على تقدير أنه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه، والقائلون قيل هم المقتسمون.
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة} أي قالوا ذلك إضلالًا للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال. {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} وبعض أوزار ضلال من يضلونهم وهو حصة التسبب. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال، وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم، إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق والمبطل. {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} بئس شيئًا يزرونه فعلهم.
{قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} أي سووا منصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام. {فَأَتَى الله بنيانهم مِّنَ القواعد} فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت. {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} وصار سبب هلاكهم. {وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل، وقيل المراد به نمروذ بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا.
{ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} أضاف إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإِضافتهم زيادة في توبيخهم. {الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ} تعادون المؤمنين في شأنهم، وقرأ نافع بكسر النون بمعنى تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عز وجل. {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم} أي الأَنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد فيشاقونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة. {إِنَّ الخزي اليوم والسوء} الذلة والعذاب. {عَلَى الكافرين} وفائدة قولهم إظهار الشماتة بهم وزيادة الإِهانة، وحكايته لأن يكون لطفًا ووعظًا لمن سمعه.
{الذين تتوفاهم الملائكة} وقرأ حمزة بالياء، وقرئ بإدغام في التاء وموضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} بأن عرضوها للعذاب المخلد. {فَأَلْقَوُاْ السلم} فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت. {مَا كُنَّا} قائلين ما كنا. {نَعْمَلُ مِن سُوء} كفر وعدوان، ويجوز أن يكون تفسيرًا ل {السلم} على أن المراد به القول الدال على الاستسلام. {بلى} أي فتجيبهم الملائكة بلى. {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يجازيكم عليه، وقيل قوله: {فَأَلْقَوُاْ السلم} إلى آخر الآية استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة، وعلى هذا أول من لم يجوز الكذب يومئذ {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} بأنا لم نكن في زعمنا واعتقادنا عاملين سوءًا، ويحتمل أن يكون الراد عليهم هو الله تعالى، أو أولوا العلم.
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} كل صنف بابها المعد له، وقيل أبواب جهنم أصناف عذابها. {خالدين فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} جهنم. اهـ.

.قال ابن جزي:

{أتى أَمْرُ الله}.
قيل: النصر على الكفار، وقيل: عذاب الكفار في الدنيا، ووضع الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوع الأمر ولقربه، وروي أنها لما نزلت وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فلما قال: فلا تستعجلوه سكن {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح} أي بالنبوة وقيل بالوحي {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} أي من نطفة المني، والمراد جنس الإنسان {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فيه وجهان أحدهما: أن معناه متكلم يخاصم عن نفسه، والثاني: يخاصم في ربه ودينه، وهذا في الكفار، والأول أعم.
{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي ما يتدفأ به، يعني ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، ويحتمل أن يكون قوله: {لكم} متعلق بما قبله أو بما بعده ويختلف الوقوف باختلاف ذلك {ومنافع} يعني شرب ألبانها، والحرث بها وغير ذلك {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يحتمل أن يريد بالمنافع ما عدا الأكل فيكون الأكل أمرًا زائدًا عليها، أو يريد بالمنافع الأكل وغيره، ثم جرد ذكر الأكل لأنه أعظم المنافع: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} الجمال حسن المنظر، وحين تريحون يعني حين تردونها بالعشي إلى المنازل، وحين تسرحون حين تردونها بالغداة إلى الرعي، وإنما قدم تريحون على تسرحون، لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} يعني الأمتعة وغيرها وقيل: أجساد بني آدم {إلى بَلَدٍ} أي إلى أي بلد توجهتم، وقيل: يعني مكة {بِشِقِّ الأنفس} أي بمشقة {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} استدل بعض الناس به على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير، لكونه علل خلقتها بالركوب والزينة دون الأكل، ونصب زينة على أنه مفعول من أجله، وهو معطوف على موضع لتركبوها {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عبارة على العموم أي أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها، وكل ما ذكر في هذه الآية شيئًا مخصوصًا فهو على وجه المثال.
{وعلى الله قَصْدُ السبيل} أي على الله تقويم طريق الهدى، بنصب الأدلة وبعث الرسل والمراد بالسبيل هنا: الجنس، ومعنى القصد الموصل، وإضافته إلى السبيل من إضافة الصفة إلى الموصوف {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} الضمير في منها يعود على السبيل إذ المراد به: الجنس ومعنى الجائر: الخارج عن الصواب: أي ومن الطريق جائر كطريق اليهود والنصارى وغيرهم {مَاء لَّكُم} يحتمل أن يتعلق لكم بأنزل أو يكون في موضع خبر لشراب، أو صفة لسماء {وَمِنْهُ شَجَرٌ} يعني ما ينبت بالمطر من الشجر {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي ترعون أنعامكم.
{وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الأرض} يعني الحيوان والأشجار والثمار وغير ذلك {مُخْتَلِفًا ألوانه} أي أصنافه وأشكاله {لَحْمًا طَرِيًّا} يعني الحوت {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يعني الجواهر والمرجان {مَوَاخِرَ فِيهِ} جمع ماخرة يقال: مخرت السفينة، والمخر: شق الماء، وقيل: صوت جري الفلك بالرياح {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني في التجارة وهو معطوف على لتأكلوا.
{وألقى فِي الأرض رواسي أَن تَمِيدَ بِكُمْ} الرواسي الجبال، واللفظ مشتق من رسا إذا ثبت، وأن تميد في موضع مفعول من أجله، والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض؛ وروي أنه لما خلق الله الأرض جعلت تميد فقالت الملائكة: لا يستقر على ظهر هذه أحد، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال {وأنهارا} قال ابن عطية: أنهارًا منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل أو خلق أنهارًا قال: وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على أن ألقى أخص من جعل وخلق: ولو كانت ألقى بمعنى خلق: لم يحتج إلى هذا الإضمار {وَسُبُلًا} يعني الطرق {وعلامات} يعني ما يستدل به على الطرق من الجبال والمناهل وغير ذلك، وهو معطوف على أنهارًا وسبلًا قال ابن عطية: هو نصب على المصدر أي لعلكم تعتبرون، وعلامات أي عبرة وأعلامًا {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني الاهتداء بالليل في الطرق، والنجم هنا جنس، وقيل: المراد الثريا والفرقدان، فإن قيل: قوله وبالنجم هم يهتدون؛ فمن المراد بهم؟ فالجواب أنه أراد قريشًا لأنهم؛ كان لهم في الاهتداء بالنجم في سيرهم علم لم يكن لغيرهم، وكان الاعتبار ألزم لهم فخصصوا، قال ذلك الزمخشري.
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} تقرير يقتضي الردّ على من عبد غير الله، وإنما عبّر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل، أو مشاكلة لقوله: {أفمن يخلق}.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} ذكر من أول السورة إلى هنا أنواعًا من مخلوقاته تعالى على وجه الاستدلال بها على وحدانيته، ولذلك أعقبها بقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ}، وفيها أيضًا تعداد لنعمه على خلقه، ولذلك أعقبها بقوله: {وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها} ثم أعقب ذلك بقوله: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه.
{والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} نفى عن الأصنام صفات الربوبية، وأثبت لهم أضدادها، وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين بوقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم أثبت الربوبية لله وحده فقال: إلهكم إله واحد.
{أموات غَيْرُ أَحْيَاء} أي لم تكن لهم حياة قط ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدّمت له حياة ثم مات، ثم يعقب موته حياة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الضمير في يشعرون: للأصنام وفي: يبعثون للكفار الذين عبدوهم، وقيل: إن الضميرين للكفار {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} أي تنكر وحدانية الله عز وجل: {لاَ جَرَمَ} أي لابد ولا شك، وقيل إن لا نفي لما تقدم، وجرم معناه وجب، أو حق، وأن فاعله بجرم.
{أساطير الأولين} أي ما سطره الأولون، وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتاب تواريخ، وكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وماذا يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا من ما وذا، ويكون منصوبًا بأنزل، أو أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وفي أنزل ضمير محذوف {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} اللام لام العاقبة والصيرورة: أي قالوا أساطير الأولين، فأوجب ذلك أن حملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، ويحتمل أن تكون للأمر {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من المفعول في يضلونهم، أو من الفاعل.
{فَأَتَى الله بنيانهم مِّنَ القواعد} الآية: قيل المراد بالذين من قبلهم نمروذ، فإنه بنى صرحًا ليصعد فيه إلى السماء بزعمه، فلما علا فيه هدمه الله وخر سقفه عليه، وقيل: المراد بالذين من قبلهم كل من كفر من الأمم المتقدمة، ونزلت به عقوبة الله فالبنيان والسقف والقواعد على هذا تمثيل {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} توبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إلى نفسه أي على زعمكم ودعواكم، وفيه تهكم به {الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي تعادون من أجلهم فمن قرأ بكسر النون فالمفعول ضمير المتكلم وهو الله عز وجل، ومن قرأ بفتحها فالمفعول محذوف تقديره تعادون المؤمنين من أجلهم {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} هم الأنبياء والعلماء من كل أمة، وقيل: يعني الملائكة واللفظ أعم من ذلك.
{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حال من الضمير المفعول في تتوفاهم {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي استسلموا للموت {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} أي قالوا ذلك، ويحتمل قولهم لذلك أن يكونوا قصدوا الكذب اعتصامًا به كقولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]. أو يكونوا أخبروا على حسب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر {بلى} من قول الملائكة للكفار: أي قد كنتم تعملون السوء. اهـ.